<!--
/* Font Definitions */
@font-face
{font-family:"KFGQPC Uthman Taha Naskh";
mso-font-charset:178;
mso-generic-font-family:auto;
mso-font-pitch:variable;
mso-font-signature:-2147475455 -2147483648 8 0 64 0;}
@font-face
{font-family:"Traditional Arabic";
panose-1:2 1 0 0 0 0 0 0 0 0;
mso-font-charset:178;
mso-generic-font-family:auto;
mso-font-pitch:variable;
mso-font-signature:24577 0 0 0 64 0;}
/* Style Definitions */
p.MsoNormal, li.MsoNormal, div.MsoNormal
{mso-style-parent:"";
margin:0cm;
margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:12.0pt;
font-family:"Times New Roman";
mso-fareast-font-family:"Times New Roman";}
p.MsoHeader, li.MsoHeader, div.MsoHeader
{margin:0cm;
margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
tab-stops:center 216.0pt right 432.0pt;
font-size:12.0pt;
font-family:"Times New Roman";
mso-fareast-font-family:"Times New Roman";}
p.MsoFooter, li.MsoFooter, div.MsoFooter
{margin:0cm;
margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
tab-stops:center 216.0pt right 432.0pt;
font-size:12.0pt;
font-family:"Times New Roman";
mso-fareast-font-family:"Times New Roman";}
@page Section1
{size:21.0cm 842.0pt;
margin:2.0cm 2.0cm 2.0cm 2.0cm;
mso-header-margin:35.45pt;
mso-footer-margin:35.45pt;
mso-paper-source:0;}
div.Section1
{page:Section1;}
-->
الخطبة الأولى
الحمد
لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك
محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما
بعد:
فاتقوا
الله حق التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيها
الناس:
إن
ربكم - عز وجل - قد دعاكم إلى رضوانه وجناته، وإلى ما فيه سعادتكم في دنياكم وأخراكم،
فقال - تبارك وتعالى -: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133 ]،
وقال - تعالى -: {وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}
[البقرة: 221 ]، وقال - تبارك وتعالى -: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ
وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 22 ].
وفي
الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلُّكُم يدخلُ الجنةَ إلا مَنْ أَبَى»،
قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «مَنْ أطاعني دخَلَ الجنة، ومن عصَاني فقدْ أَبَى»،
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا هلْ من مُشمِّرٍ إلى الجنة؟ والذي نفسي بيده
إنها نهر مضطرد، وريحانة تهتز، وزوجة حسناء، ومحلة بهيجة»، فقالوا: نحن المُشمِّرُون
يا رسول الله، فقال: «قولوا: إن شاء الله»، فقالوا: إن شاء الله.
وقال
- تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24 ]، وقال - عز وجل -:
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4 ]، وقال -
تبارك وتعالى -: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132 ].
وكما
دعا الله إلى الجنة، فقد حذَّرَ من النار، فقال - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6 ]، وقال - عز وجل -: {فَأَنذَرْتُكُمْ
نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
[الليل: 14-
16
].
وعن
النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو
يخطب يقول: «أنذرتُكُم النار، أنذرتُكُم النار»؛ رواه أحمد، والحاكم، وهو صحيحُ
الإسناد.
والجنة
غايةُ المسلم التي يسعَى إليها، ويعمل لها، والنار هي أعظمُ ما يخافُهُ المؤمن، والنجاةُ
منها أعظمُ فوزٍ ينالُهُ المسلم، قال الله –
تعالى -: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185 ].
وإن
العبد المسلم منذ مَيَّزَ وكلَّفَه الله يسيرُ إلى هذه الغاية، يعمل الصالحات لنيل
هذا الثواب العظيم والنعيم الأبدي المُقِيم، ولينجو من نارٍ بعيدٌ قعرُها، مُرٌّ
طعامُها، شديدٌ حرُّها، خبيثٌ شرابُها، سرمديٌّ عذابُها.
وأول
طريق الجنة والنجاة من النار يبدأ في هذه الحياة الدنيا، وينتهي بباب الجنة، وهو
صراطُ الله المستقيم الذي أَمَرَ الله باتباعه، فقال - عز وجل -: {وَأَنَّ هَـذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:
153 ].
فصراطُ
الله المستقيم هو التمسُّك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباع ما كان
عليه سيدُ البشر محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -، قال - تبارك
وتعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100 ].
ولكن
هذه الجنة والنجاة من النار التي هي غايةُ كل مسلم لها قُطَّاعُ طرق ومُعوِّقات دونها،
كلُّ واحدٍ من قطاع الصراط المستقيم والمنهج القويم يمنع من دخول الجنة، ويقذِف
بمن ظفر به في النار، فكيف إذا اجتمعت على العبد قُطَّاع الطرق المستقيم كلهم، فلا
ترجو له بعد استيلائهم عليه فلاحًا أبدًا.
وإن
من قُطَّاع الطريق إلى الجنة: الأهواءَ المُهلِكة؛ فالهوى يُعمِي ويُصِيب، ويجعل
الحق باطلًا، والباطل حقًّا، والحسن قبيحًا، والقبيح حسنًا، والمعروف منكرًا،
والمنكر معروفًا، والحلال حرامًا، والحرام حلالًا، والشر خيرًا، والخير شرًا،
فصاحبُ الهوى يعمل بما يهوى ويحب، ولو علِمَ الحق من الباطل فإنه لا ينتفع بعلمه.
ومعنى
الهوى: المَيْلُ إلى ما يحبه الإنسان من الباطل والشر، والشهوات المحرمة، والمَلذَّات
المُفسِدة، والعمل السيء الشرير، قال - تعالى -: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ
هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} [القصص: 50 ]، وقال - تعالى -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23 ]، وقال - تعالى -: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ * وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 16- 17
].
والعصمةُ
من اتباع الهوى هو العمل بكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -،
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمِنُ أحدُكُم حتى يكونَ هواهُ تَبَعًا
لما جئْتُ بهِ».
وكما
أَمَرَ اللهُ العبدَ بألا يتَّبع هوى نفسه بمثل قوله - تعالى -: {وَلَا تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26 ]، كذلك
أمر الله العبد ألا يتَّبِع أهواء غيره ممن انحرف عن الحق والإيمان، قال - تبارك
وتعالى -: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18 ]، وقال - تعالى
-: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ
كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة: 77 ]، وقال - عز وجل -: {وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ
اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120 ].
فانظر
إلى هذه التحذيرات من رب العزة والجلال للعباد من اتباع الأهواء؛ لأنها تصُدُّ عن
الحق، وتقطع صاحبَها عن الجنة، وتُوبِقه في النار.
ومن
قُطَّاع طريق الجنة: إيثارُ الدنيا على الآخرة، والاغترارُ بها، والرضا بمتاعها
الزائل عن نعيم الآخرة، قال الله - تعالى -: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16- 17
]، وقال - عزوجل -: {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ
اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 2- 3 ]،
وقال - عز وجل -: {وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ
الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ} [النحل: 106 ]، وقال - عز وجل -: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ
لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ
هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا
كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يونس: 7- 8 ]، وقال - تعالى -: {فَأَعْرِضْ
عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ
مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29- 30
].
ويقول
النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدنيا حُلْوةٌ خَضِرةٌ، وإن الله مُستخلِفُكم
فيها لينظرَ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء»، والمعنى: فاتقوا الدنيا أن
تأخذوها بوجهٍ مُحرَّم فتكسبوا الأموال الحرام، واتقوا النساءَ فلا تقربوا الزنى،
ولا تأتوا مُقدِّماته؛ من الاختلاط، والخلوة، والمحادثة، والمُفَاكَهة، والنظر؛
فكل ذلك مُحرَّمٌ بالنصوص، وفي الحديث: «أولُ فتنة بني إسرائيل في النساء» وما ظهر
الزنا في بلدٍ إلا ضربه الله بالذلَّة، والفقر، وأنواع العقوبات.
ومن
قُطَّاع طريق الجنة: البدعُ التي تهدِمُ الدين وتُغيِّره، وتكون سببًا في تفرُّق
أمة الإسلام وضعفها، وعدوان بعضها على بعض، وعدم تماسُكها أمام أعدائها، قال الله
- تعالى -: {وأقيموا الصلاة وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:
31- 32
]، وقال - تعالى -: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ
مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل
عمران: 105 ].
وفي
الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يرِدُ عليَّ أُناسٌ من أمتي
الحوض فتطردهم الملائكة، فأقول: أصحابي، فيقولون: إنك لا تدري ما أحدَثوا بعدك،
فأقول: سُحْقًا سُحْقًا لمن بدَّل بعدي».
فأئمَّةُ
البدع وأتباعُهم مُبدِّلُون مُحدِّثُون في دين الله؛ فليحذروا الوقوف بين يدي الله،
وليتَّقوا الله في الإسلام؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
ومن
قُطَّاع طريق الجنة: النفسُ الأمَّارةُ بالسوء؛ فإنها تميلُ إلى الكسل، وتحب الكسل
عن الطاعات، وتميلُ إلى المحرمات، قال الله - تعالى -: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف: 53 ]، فإذا عارَضَها الإيمانُ كانت
نفسًا لوَّامة تلُوم صاحبَها على التقصير في الطاعات، واقترافِ بعض المحرمات، فإذا
ارتفعت عن هذه المنزلة بالإيمان كانت نفسًا مُطمئنَّة تُحبُّ ما أحب الله، وتكره
ما يكره الله، وقد استعاذَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من شر النفس وشَرَعَ لنا
ذلك، فليُهذِّب المسلمُ نفسَه، وليأخذها بالتمسُّك بهدي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ليكون من المُفلِحين.
ومن
قُطَّاع طريق الجنة: شياطينُ الإنس الذين يُزيِّنون الباطل والمُنكَرات، ويذُمُّون
الحق والطاعات، قال الله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا
شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُورًا} [الأنعام: 112 ]، وقال - تعالى - في المنافقين: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:
14 ].
وشياطينُهم
أئمَّةَ الكفر الذين كانوا يُزيِّنُون لهم الباطل، ويذُمُّون الحق، وقد أَمَرَنا
الله أن نحذَرَهم، فقال - عز وجل -: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8 ]،
وقال - تعالى -: {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142 ].
ومن
قُطَّاع طريق الجنة: إبليسُ وشياطينُه؛ فإنه يدعو إلى كل شرٍّ، وينهى عن كل خير،
ويُزيِّنُ سُبُلَ الضلال، ويُثبِّط عن كل خير وطاعة، ويصُدُّ عن سبيل الله، وقد
حذَّرَنا منه ربُّنا، فقال - تعالى -: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ} [فاطر: 6 ].
وشياطينُه
هم جنوده وأعوانه على كل شر، والقاعدون بطريق كل خير وطاعة يصدُّون عن الجنة وعن
الهدى والخير، قال - تعالى -: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم
مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ} [فصلت: 25 ]، وقال - تبارك وتعالى -: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ
الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى
إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي
الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 36- 39 ].
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر
المسلمين؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد
لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق
الوعدِ الأمين، بَعَثَه الله بالهدى واليقين ليُنذِرَ من كان حيًّا ويَحِقَّ القولُ
على الكافرين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه
أجمعين.
أما
بعد:
فاتقوا
الله - عباد الله -؛ فإن تقوى الله - عز وجل - هي السبب بينكم وبين ربكم.
إن
أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور
محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
فعليكم
- عباد الله - عليكم بالجماعة؛ فإن يدَ الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار،
وإن ربنا - تبارك وتعالى - ذكر لنا صفات أهل الجنة لنقتدي بهم، ولا نتخلَّف عنهم،
وذكر لنا صفات أهل النار لنُحذِّرهم ولا نتبع طرقهم، قال - تبارك وتعالى -: {وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ
عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:
19- 21
].
فيا
عباد الله:
اثبتوا
على طاعة الله، وأدِيموا السؤال لله والدعاء له بحسن الخاتمة، والوفاة على ما كان
عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تكونوا من الفائزين المفلحين؛ فإن
رسول - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - كان يُكثِرُ
من قول: «يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّتْ قلبي على طاعتِك، يا مُصرِّفَ القلوب صرِّفْ
قلوبَنا على طاعتِك».
فاقتدوا
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كثرة الدعاء بما تُحبُّون من خيري الدنيا
والآخرة؛ فإن الله - تبارك وتعالى - يقول: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ
الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56 ].
عباد
الله:
إن
الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال - عزَّ من قائل -: {إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ]؛ فصلُّوا وسلِّموا على
سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.
اللهم
صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ
مجيدٌ، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم،
إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم
وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر،
وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، اللهم وارضَ عنَّا بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم
أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خِزْي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا
نعوذ بك أن يتخبَّطَنا الشيطان عند الموت، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا
إله إلا الله يا ذا الفضل العظيم.
اللهم
ألِّف بين قلوب المسلمين وأصلِح ذات بينهم، واهدِهِم سُبُلَ السلام، وأخرِجهم من
الظلمات إلى النور، وانصرهم يا رب العالمين على عدوك وعدوهم، إنك على كل شيء قدير.
اللهم
انصر دينك وكتابك وسنة نبيك يا قوي يا متين، اللهم أبطِل كيدَ أعداء الإسلام يا رب
العالمين، اللهم أبطِل مكر أعداء الإسلام يا قوي يا متين، اللهم أبطِل تخطيط أعداء
الإسلام التي يُخطِّطُونها لضرب الإسلام، ولكيد الإسلام أو كيد المسلمين يا رب
العالمين، إنك على كل شيء قدير، تعلمُ خائنة الأعين، وما تُخفِي الصدور.
اللهم
إنا نسألك أن تغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلَنَّا، وما أنت
أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّمُ وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت.
اللهم
آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحِ اللهم ولاة أمورنا، اللهم وفِّق خادم الحرمين
الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين،
اللهم انصر به دينك، وأعلِ به كلمتك، اللهم وارزقه البطانة الصالحة التي تُعينُهُ
على الخير يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، اللهم وفِّق وليَّ عهده لما تحب
وترضى، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وانصر به الإسلام، إنك على كل شيء
قدير، اللهم وفِّق النائب الثاني لما تحب وترضى، ولما فيه الخير يا رب العالمين
للبلاد والعباد، اللهم اجعل جميع ولاة أمور المسلمين عملَهم خيرًا لشعوبهم وأوطانهم.
اللهم
ألِّف بين قلوب المسلمين يا رب العالمين.
اللهم
اقمع البدع التي تُعادِي دينك - دين الإسلام - الذي بعثتَ به نبيك محمدًا - صلى
الله عليه وسلم -، واجعلنا من المُتمسِّكين بسنة رسولك كما تحب وترضى يا ذا الجلال
والإكرام.
اللهم
أغِثنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا يا رب العالمين يا رحمن يا رحيم.
{رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ} [البقرة: 201 ].
عباد
الله:
{إِنَّ
اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ
بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ
مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 90، 91 ].
واذكروا
الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدْكم، ولذكرُ الله أكبر، والله
يعلمُ ما تصنعون.