ماذا عن مستقبل الرأسمالية،
الذي ناقشته صحيفة "فاينانشيال تايمز" في سلسلة من المقالات الممتعة
تماماً؟ ستنجو الرأسمالية. إذ لم يتغير التزام كل من الصين والهند باقتصاد
السوق، على الرغم من هذه الأزمة، رغم أن البلدين سيصبحان أكثر توتراً حول
التمويل غير المقيَّد. وسيصر الناس الذين يقفون إلى جانب السوق على أن
الفشل يجب أن يُلقى على باب الأجهزة التنظيمية والرقابية وليس على باب
الأسواق. هناك قدر كبير من الحقيقة في ذلك: علينا ألا ننسى أن البنوك هي
أكثر المؤسسات المالية خضوعاً للتنظيم. لكن هذه الحجة ستخفق من الناحية
السياسية. فقد تضررت الرغبة في الثقة باللعب الحر لقوى السوق في التمويل.
بالتالي نستطيع أن نخمن انتهاء وزوال العصر الذي يتسم بهيمنة أنموذج
اقتصاد السوق. ستعمل البلدان، كما هو شأنها دائماً، على تكييف اقتصاد
السوق وفق تقاليدها الخاصة. لكن ستقوم بذلك على نحو أكثر ثقة من ذي قبل.
وعلى حد التعبير الذي يحاكي ما قاله ماو تسي تونج: "فلندع ألف زهرة
رأسمالية تتفتح". العالم الذي يوجد فيه عدد كبير من الرأسماليات عالم
يتطلب المهارة والحذر، لكنه سيكون عالماً ممتعاً. لكن المضامين التي تترتب
على العولمة ليست واضحة. نحن نعلم أن حقن كميات هائلة من الأموال الحكومية
كان من شأنه تخفيف طابع العولمة بصورة جزئية في التمويل، وجاء ذلك مقابل
تكاليف هائلة تكبدتها بلدان الأسواق الناشئة. نعلم كذلك أن التدخل الحكومي
في الصناعة له طابع قومي قوي. بالمثل، نعلم أنه لا يوجد عدد كبير من
الزعماء السياسيين الذين لديهم الاستعداد لوضع أنفسهم في موقع ضعيف
ومساندة التجارة الحرة. معظم بلدان الأسواق الناشئة ستستنتج أن تكويم
احتياطيات هائلة من العملات الأجنبية وتقليص العجز في الحساب الجاري هو
سياسة سليمة. ومن شأن ذلك على الأرجح توليد جولة أخرى من "الاختلالات"
العالمية التي تزعزع الاستقرار. وتبدو هذه نتيجة لا مفر منها لنظام نقدي
دولي ناقص لا نعلم إلى أي مدى يمكن فيه للعولمة أن تنجو من جميع الضغوط
التي من هذا القبيل. أنا أرجو أن تتمكن من النجاة، لكني لست على ثقة كبيرة
من ذلك. من جانب آخر، عادت الدولة، لكنها تبدو بصورة متزايدة مفلسة أكثر
من ذي قبل. من المرجح أن تتضاعف نسبة الدين في القطاع العام إلى الناتج
المحلي الإجمالي في كثير من البلدان المتقدمة. يُذَكِّرنا المحللون بأن
الأثر الواقع على الميزانية العامة للدولة بفعل الأزمة المالية الضخمة
يعادل تكاليف حرب كبيرة. هذه إذن كارثة لا تستطيع حكومات البلدان المتقدمة
ذات النمو المتباطئ أن تراها وهي تتكرر خلال جيل. كذلك التركة المترتبة
على هذه الأزمة ستضع قيوداً على الكرم في المالية العامة. فالجهود الرامية
إلى ضبط وتأمين الأموال العامة ستهيمن على السياسة لسنوات، وربما لعقود.
بالتالي عادت الدولة، لكنها ستكون دولة بصفة شخص كثير التدخل في شؤون
الآخرين، لا بصفة المنفق الكبير. أخيراً وليس آخراً، ماذا تعني الأزمة
بالنسبة للنظام السياسي العالمي؟ هنا نعلم ثلاثة أشياء مهمة. الأول،
اختفاء الشعور بأن الغرب، بصرف النظر عن مدى كره الآخرين له، كان على
الأقل يعلم كيف يدير نظاماً مالياً متطوراً. كما قضت الأزمة بصورة خاصة
على هيبة الولايات المتحدة إلى حد كبير، رغم أن نغمة الرئيس الجديد تساعد
بالتأكيد. الثاني، أن بلدان الأسواق الناشئة، والصين على وجه الخصوص، هي
الآن مجموعة اللاعبين الرئيسيين، كما تبين في القرار القاضي بعقد اجتماعين
رئيسيين لمجموعة العشرين على مستوى رؤساء الحكومات. هذه البلدان أصبحت
الآن عناصر مهمة في عملية صنع السياسة على المستوى العالمي. الثالث، أن
هناك جهوداً تُبذَل الآن لإصلاح طرق الإدارة الرشيدة العالمية، خصوصاً في
الموارد المتزايدة التي توضع تحت تصرف صندوق النقد الدولي والمناقشات
الجارية حول تغيير الوزن النسبي للبلدان داخل الصندوق. لا يزال باستطاعتنا
فقط أن نخمن مدى التغيرات الجذرية التي ستصيب النظام السياسي العالمي في
المستقبل. من المرجح أن تظهر الولايات المتحدة على أنها الزعيم الذي لا
غنى عنه، بعد أن يكون قد جُرِّد من أوهام "اللحظة أحادية القطب". وستصبح
العلاقة بين الولايات المتحدة والصين أكثر أهمية وأساسية من ذي قبل، مع
بقاء الهند في حالة انتظار على مقربة من الصين. من المؤكد، على ما يبدو،
أنه ستكون هناك زيادة في الوزن الاقتصادي النسبي وقوة العملاقين
الآسيويين. من جانب آخر، فإن أوروبا لا تعاني من أزمة جيدة. فقد تبين أن
اقتصادها ونظامها المالي في حالة ضعف تفوق ما توقعه كثير من الناس. مع ذلك
لا يزال من غير المعروف المدى الذي ستكوِّن فيه مجموعة من المؤسسات
المجددة والتي أعيد توازنها في سبيل التعاون الدولي، صورة عن الحقائق
الجديدة. ما هي إذن النقطة الرئيسية لكل ذلك؟ أظن أن هذه الأزمة تسببت في
تسارع بعض الاتجاهات العامة، وأثبتت أن بعض الاتجاهات العامة الأخرى،
خصوصاً في الائتمان والدين، غير قابلة للاستدامة. ستترك هذه الأزمة تركة
مُرة للعالم. لكنها ربما تظل مع ذلك ليست من الأحداث التاريخية الفاصلة.
باستخدام العبارة التي يقولها الناس عند وفاة الملوك: "ماتت الرأسمالية.
عاشت الرأسمالية
__________